العمارة والشاشة في الرسم المعاصر

.

المقاله تحت باب  مقالات فنيه
في 
28/01/2009 06:00 AM
GMT



ان غفلتنا البصرية الجديدة تدين بالكثير للثورة في المواصلات السلكية واللاسلكية والنقل، فمع انمحاء المسافات اختفى الاحساس بالمدى الترابي ومعنى المعيش الواقعي، لقد غدا كل شيء قابلا للامتلاك بسرعة وبلا جهد.

فالفن التشكيلي بطيء بينما المعلوماتية سريعة. والعصر البصري يقصر الازمنة على اللوحة بالاصباغ السائلة والسريعة الجفاف، بالاكرليك.. وهي ليست سوى ماء والدانة خاصة ومستعجلة.. هذه ما يريده عصر الشاشة السائل والمرتجل، عصر الانتقال والمرور المرتبط بقيم التيارات والموجات والاصوات والاخبار والصور. حيث تغدو سرعة اضطرارية الاشياء الصلبة والمتماسكة، سائلة والخصائص ملساء ومسطحة.. فوسطنا التقني يجعل من نفسه عابرا للحدود كالصور الاثيرية.. انه ينتج فنا عابرا للفنون..وسنكون امام عاملين وسائطين قد فرضا نفسيهما على الرسم.. هما (الشاشة) و(العمارة) وكلا الوسطين يحققان اليوم ما يمكن تسميته فن الفرجة المجانية، الذي بدا يتحكم في اساليب الرسم واتجاهاته في نهايات القرن الماضي والسنوات الاولى من قرننا الواحد والعشرين..

حضور الشاشة

ان كلمة شاشة تعني فاصلا او حاجزا، تفصل بين الواقع والخيال، ولفهم آلية فعالية الصورة، ربما يتوجب علينا ان ننظر بعين جادة الى دور الشاشة في عملية الفرجة، الشاشة تنقل صورا من عالم آخر مختلف، من موقع آخر من زمن آخر (مهما كانت طبيعة هذا الزمان او المكان) تنقله على الحاضر الى آنية معينة هي آنية الفرجة، والتي تقتصر في هذه الحالة على كونها شخص مشاهد وشاشة.

وبين الاثنين تبدأ لعبة الايهام، تطرح الشاشة الصورة وكأنها امتداد للواقع أو جزء منه.. فنرى الواقع والايهام يتحركان على امتداد بصري يومي في الصالات وعلى جدران المدن وكذلك في المطارات والساحات والبيوت.. فالشاشة فرضت نفسها كواقع آخر ينقل صورا من عوالم مختلفة.. وهنا يمكن تصور اختلاط البصري عندما تتحرك الصورة على شاشات العرض وتتجمد بالصورة الثابتة.. والمفارقة المعاصرة انك يمكن ان تجلس في البيت او المقهى وتشاهد الاثنين معا.. والسؤال كيف يستطيع الفن والرسم تحديدا ان يجد لنفسه مقعدا داخل فضاء متحرك على الشاشة وصور الفوتوغراف التي تغطي المساحات الكبيرة وتؤدي دورا معلوماتيا وجماليا هائلا. فتعددت اسباب الفرجة الاجبارية.. منها الحصول على المعلومة او ملاحقة حدث وكذلك للمتعة.. الشاشة تفرض نفسها علينا واقعا.. كما تقول موندزين في كتابها " هل يمكن للصورة ان تقتل" .
ففي معرض كلامها عن الايهام ودور الشاشة فيه تورد المثال الاتي: اطفال في غرفة يتابعون فلما بانسجام كامل، لدرجة انهم ينسون تماما انفسهم ويدخلون في الايهام، ينسون وجود الشاشة، تمر المربية لتخاطبهم فتقطع عليهم تسلسل المتابعة، يصرخون طالبين منها الابتعاد (المربية هنا هي الشاشة لانها فصلت بين الواقع والخيال) وفي هذا المثال البسيط توضيح لمفارقة وجود الشاشة في فنون الصورة، في هذا المنحى ايضا يأتي التحذير من السماح للطفل بان يتابع ما يريده من صور لانه سينخدع وسيصدق، الطفل نموذج لمتفرج لايمتلك الحرية النقدية يتعامل مع المادة المعطاة له على الشاشة من خلال تمثل عال يعطيه متعة هائلة لكنه يضلله.

هكذا الصورة تبث عن طريق الشاشة حتى اصبحت في تناول الجميع فكسرت اسطورة التصوير كنتاج لفنان مبدع حصرا اذ بواسطة آلة تباع في الاسواق (قسم منها يستعمل لمرة واحدة) (كشفرات الحلاقة) اصبح بامكان طفل ان يصور صورا ثابتة او متحركة.. ومثلما ذكرنا في بحثنا عن اثر (الكولاج) فن اللصق في متحول الفن، فان عمليات المونتاج واللصق سمحت بالنسخ والاستعادة والتكرار واستخدام الصورة نفسها في حالات عديدة اضافة الى ان الصورة المتحركة سمحت بتسجيل الاحداث السريعة ومن ثم معالجتها.

من الناحية الفلسفية، خلقت الصورة المتحركة والفوتوغرافية علاقة جديدة بالزمن، فقد سمحت بالتقاطه ثم قامت من خلال الصورة المتحركة- الرقمية بتسجيل الامتداد الزمني وعبرت عليه بسهولة كبيرة، ولكن الاهم هو التحول الذي طرأ على ادراكنا لمفهوم الزمن (بمعناه المجرد) من خلال قدرة الصورة على استعادة الماضي وتوضيعه في الحاضر والرجوع الى الوراء لتبدو الصورة المستعادة كانها اشارة الى ظل الواقع بالمعنى الافلاطوني، وعليه فالواقع بحد ذاته قد يبدو ظلا هو الاخر لحقيقة ابعد ومن هنا فاننا قد نتعامل مع عالم افتراضي غير ملموس في اشكال التخاطب الالكترونية. لقد تأثرت اللوحة بهذا العالم من حيث الشكل وكذلك الجوهر.. لان لوحة الرسم تعلق وسط حشد من الاضواء الذي يسرق منها بريقها. وبالتالي تحولت عبر وسيط الشاشة الى التعبير عن نفسها وحضورها وكان ان تحركت الى تلك المنطقة عن طريق فن الكرافيك عندما ملأت الشاشات بالاعلانات واللوات المحمولة على لغة ليست لغتها القديمة.

ظهرت في ضوء ذلك تقنيات اخراج اللوحة الجديدة وساهم الحاسوب اليوم في فتح مجالات لم يكن الى فترة قريبة باستطاعة الفنان ادراكها.
لقد صار بامكان الفنان ان يقوم بعملية الرسم على الشاشة ثم يطبع نتاجه حيث يشار ما بواسطة طباعة (الفلكسو) التي حلت محل القماش كما يستطيع الحاسوب ان يوفر (باليت) من الالوان بتجهيزها بتدرج لوني يتكون من 256 درجة مختلفة للون الواحد.. وعليه فاللوحات المنتجة اليوم تتعامل مع وسائط اخرى غير تلك التي جاءت بها حركة ما بعد الحداثة.. التي عمدت على اعطاء غرابة في المادة..

ان غرابة المنتج لم تعد قائمة مع سلطة الشاشة وملحقاتها.. وقد يسعى الفنانون او هم كذلك الى استثمار الطاقة العظيمة لعصر الشاشة في اخراج صورة (لوحة) لاتشابه الصور الفوتوغرافية الثابتة او المتحركة وانما تأخذ مدارها التقني وترميها اللوحة.. مركب بين اثيرية الضوء ومادتها الحسية.

بلاغةالملمس

بعد الثورة الكبيرة في العمارة والتشييد وظهور المدن الكبرى بدأت الحاجة الى التزيين في الهندسة، وعلى وجه الخصوص الديكور بوصفه العنصر الجمالي للبيت الحديث والامكنة العصرية.
لقد قررت الذائقة الجمالية ان يصبح البيت الجديد والمقهى والمطعم والفندق هدفا للاستثمار المزدوج.. فمن جهة يؤكد المظهر الفني على كسب الناس الى جهة المبنى فصنعت البضائع الكمالية لتلبية حركة الطلب المحموم عليها.. ثم ظهرت طبقات جديدة قادرة على الشراء وبيوتها صورة معبرة ومتناقضة عن ذوقها ووضعها الاجتماعي فصار الاهتمام بالارائك والالات الموسيقية كالبيانو جزء من جماليات الجدار والداخل، وبرزت اهمية اقتناء اللوحات الفنية.. عندما بدأ يقتحم روح التسوق عقل الناس فتحول الفن لمادة للمقايضة والبيع والشراء من جهة اخرى فرض هذا التوجه الى سعي المعماري للموائمة بين ملمس ولون الجدار وبين العمل الفني نفسه.. حتى غدت الجدران في مجموعها تعكس المستوى المعرفي والجمالي والفني وتبرهن عن رغبة في اظهار الترف والذوق العصري ومسايرة التطور الاجتماعي العام وروح الاستهلاك لكن ذلك لم يكن غريبا على مستوحى التاريخ الجداري يوم كانت للاعمال الفنية حضورا حقيقيا على الجدران المعمارية.. لكن الفرق بين تاريخ اللوحة المعلقة على الجدران قديما واللوحة الان هو فرق في المفاهيم وكذلك العرض والمواد وفي التوجه.. فقد كانت المواد تحقق تسمية واسلوب، وعليه نستطيع القول ان الفن الجداري مر بثلاث مراحل ومنعطفات تاريخية كبرى، في المرحلة الاولى بشكله البدائي ما قبل التاريخي مع انسان الكهوف فرسم الانسان والحيوان على جدران الصخور الطبيعية، كانت مادته وموضوعه رغم بساطتها مثار للاعجاب والدرس.. وما وجد في مغارة (هنري كوسكير) تعد علاقة مستوى التطور الفني الذي بلغه انسان المرحلة المجدلينية.

اما المرحلة الثانية فهي جداريات ما بعد الانسان البدائي ما قبل التاريخي والتي تجسدت في الرسوم والتصويرات والنحوت والحفريات الموجودة في المقابر والقصور والمعابد التاريخية، والتي تمثل مرحلة الحضارات القديمة مثل الحضارة البابلية والمصرية والصينية والهندية واليونانية والرومانية وغيرها من حضارات امريكا الجنوبية وفيها مستويات مختلفة في استخدام المواد الخام.. الى درجة اصبحت هذه اللوحات الجدارية تحمل خصوصية التجديد في جمالية الجدار والعمارة.. مثلما حدث للحضارة الفارسية والاسلامية للمنطقة العربية او على امتدادها الجغرافي عبر الفتوحات والحروب والتجارة، فاصبح الفن المزخرف والموزائيك والقاشان والبغدادي والتلبيس بالخشب او الجص على الجدران اضافة كبرى للفن الشرقي.

اما المرحلة الثالثة في تطور فن الجداريات فهي التجديد الاكثر جرأة وانقلابا في مجمل مجريات الحركة الفنية الاوربية وهي مرحلة عصر النهضة والتي قدمت جداريات ضخمة من حيث الحجم والتقنية العالية.. كاعمال دافنشي ومايكل انجلو وروفائيل التي زينت سقوف وجدران الكنائس..
لقد كانت التبدلات والتحولات التي تجري على اللوحة تستخدم المواد والمكونات على انها جزء من التقنية.. فالجداريات(لوحة) من حيث الموضوع والتركيب واللون والخطة.. لكنها تنحرف في لعبة المواد كما تتصف الجدارية بعامل الثبات في المكان مما يجعل هذا النوع من الفن مصاغا على وفق حاجات معينة تفرضها الامكنة والمفاصل المعمارية ولان كلمة جدارية نفسها ترتبط بالجدار فان المواد والسطح التصويري غالبا ما يتعالق مع ذات الجدار.. وتصبح علاقة ثلاثية قائمة بين الانسان والجدار والمادة الخام. وقد ترازمت بطريقة مستمرة صعودا مع ازدهار وتشكل المجتمع البشري وخصوصا المرحلة التي برزت فيها الكتابة والتصوير.. وهي مرحلة الحضارة ونمو المدن داخل حصونها او خارجها واستخدام الانسان الطين والحجارة والمواد الصخرية والجبسية والاسمنتية الصلبة.. فانتقلت الفنون من علاقتها بالطبيعة الى كيانات الدول والمدن والطقوس المكرسة بين اروقة المعابد والهايكل والمقابر المزخرفة.. ولادات جديدة وفنون متنوعة.. يجمع الفنان فيها بين حرفة البناء وحرفة الرسم.. او بمعنى ادق الرسم بالبناء..
لقد ساهم ذلك بهذا القدر او ذاك في جمالية الفريسكو(Fresco)  والتيمبرا (Tempera) وهي جميعا ترتبط بموضوعة الجدار وتتعامل مع بنيته.

صناعة الفن

شكلت السنوات العشر الماضية انقلابا كبيرا على مستوى صناعة اللوحة واخراجها.. لقد ساد اتجاه في الرسم يهدف الى اعادة انتاج اللوحة على وفق تأثيرات الجدران المعمارية واستعار منها المواد والملمس.. ساعد على ذلك التقدم الصناعي الكبير على صعيد المواد الاولية للفن مثل ظهور العجينة الصناعية (ووتر بروف) والاكرليك وتطور مواد البناء الداخلة في صناعة اللوحة.. والحاجات الوظيفية للتزيين داخل الفنادق والعمارات والبيوت والمطارات.. في ظل هذا الوضع سعى الفنانون الى خلق اساليب تلبي الطلب المتزايد على اللوحات ذات التأثيرات الملمسية التي تتلائم مع الجدران المعمارية والواجهات الاخرى..
لقد ادت الجداريات -التي ذكرناها- وظائف معينة كان من اهمها الاستعمال التقني للمواد لكن هذا الفن كان مكبلا بالموضوع الذي من اجله تصاغ الجدارية. لكن اللوحة المعاصرة تحاول ان تستعيد الشكل الجداري مع اقصائها للموضوع وطريقة العرض الثابتة. فكان ان اتجه الشكل الى اقصاء كل محمولات الموضوع لسببين:

الاول ان تعدد الامكنة لايسمح بتعدد المواضيع التي لم تعد لها اهمية في صناعة الصورة المعاصرة..

والثاني.. الحاجة المتجددة الى صناعة جدار متنقل كلما دعت الحاجة الى نقل الاثاث والديكور من مكان لاخر او تحريكه وفقا لمستجدات اعادة صياغة المكان وعلى وفق ذلك، كانت اللوحة الفنية تقف على جوهر المادة، واصبح من الممكن القول انه التحول الذي حدث للفن هو تحول جوهري.. هنا تتدخل المواد لصنع اللوحة وليس العكس، فاذا كانت المادة وسيلة فيما مضى من تاريخ الفن، اصبحت اليوم غاية دون اي اعتبار آخر للموضوع او الشكل مما الفه البحث الجمالي.. هكذا اقصت اللوحة تاريخها الشكلي في احادية المادة وكذلك التحول الثقافي للصورة في الفن المفاهيمي والفن الشعبي وفنون ما بعد الحداثة ذات العرض المسرحي.. ازاحت الشكل ايضا لمصالح التزيين واقترب جسدها من ثنائية الناعم والخشن.. المتعرج والبارز.. ثم استعملت بعض مواد البناء نفسها مع قصصات ممكن ان تلصق بطريقة الكولاج لكن هذه المرة ليس الكولاج الذي جاء به براك وبيكاسو.. انما وضع اشياء ديكورية تسهم في بلورة الشكل الملمسي للوحة.
واذا كان يقال " ان الاسلوب هو الانسان" يمكن القول الان ان الاسلوب هو المواد.. التي سوف تبقى لزمن تلبي حاجات عصر الامكنة.